سورة المائدة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله} أي: أولاد بنيه؛ فاليهود يقولون: نحن أولاد عزير، والنصارى يقولون: نحن أشياع عيسى. أو: فينا أبناء الله ونحن أحباؤه، أو: نحن مقربون عند الله كقرب الولد من والده. وهذه دعوى ردَّها عليهم بقوله: {قل} لهم: {فلِمَ يعذبكم بذنوبكم}، وهل رأيتم والدًا يُعذب ابنه، وقد عذبكم في الدنيا بالمسخ والقتل والذل، وقد اعترفتم أنه يعذبكم بالنار أيامًا معدودة، {بل أنتم بشر ممن خلق} أي: ممن خلقه الله، {يغفر لمن يشاء} بفضله؛ وهو من آمن منهم بالله ورسوله، {ويعذب من يشاء} بعدله؛ وهو من مات منهم على كفره، فأنتم كسائر البشر يعاملكم معاملتهم، لا مزية لكم عليهم، {ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما} كلها سواء في كونها ملكًا وعبيدًا الله سبحانه {وإليه المصير}، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقى.
الإشارة: قوله تعالى: {فلِمَ يعذبكم بذنوبكم} أي: فلو كنتم أحباءه لما عذبكم؛ لأن الحبيب لا يعذب حبيه، حُكي عن الشبلي رضي الله عنه أنه كان إذا لبس ثوبًا جديدًا مزقه، فأراد ابن مجاهد أن يعجزه بمحضر الوزير فقال له: أين تجد في العلم فساد ما ينتفع به؟ فقال له الشبلي: أين في العلم: {فَطَفِقَ مَسْحَا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [صَ: 33]؟ فسكت، فقال له الشبلي: أنت مقرىء عند الناس، فأين في القرآن: إن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فسكت ابن مجاهد، ثم قال: قل يا أبا بكر، فقرأ له الشبلي قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالْنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَآؤُاْ اللهِ وَأَحِبَّآؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} [المَائدة: 18]، فقال ابن مجاهد: كأني والله ما سمعتها قط. اهـ.
وفي الحديث: «إذا أحَبَّ اللهُ عبدًا لاَ يضُرُّه ذَنبٌ»، ذكره في القوت. وفي المثل الشائع: (من سبقت له العناية لا تضره الجناية). وفي الصحيح: «لعَلَّ اللهَ اطَّلَعَ عَلَى أهلِ بَدرِ فَقَالَ: افعَلُوا مَا شِئتم فَقَد غَفَرتُ لَكم»، وسببه معلوم، وفي الوقت عن زيد بن أسلم: (إن الله عز وجل ليحب حتى يبلغ من حبه له أن يقول له: اصنع ما شئت فقد غفرت لك). وفي القصد للشيخ أبي الحسن الشاذلي رضي الله عنه قال: يبلغ الولي مبلغًا يقال له: أصحبناك السلامة، وأسقطنا عنك الملامة، فاصنع ما شئت. اهـ.
وليس معناه إباحة الذنوب، ولكنه لمّا أحبه عصمه أو حفظه، وإذا قضى عليه بشيء ألهمه التوبة، وهي ماحية للذنوب، وصاحبها محبوب، قال تعالى: {إن الله يحب التوابين}. والله تعالى أعلم.


قلت: جملة {يُبين}: حال، أي: جاءكم رسولنا مبينًا لكم، و{على فترة}: متعلق بجاء، أي: جاءكم على حين فترة وانقطاع من الوحي، و{أن تقولوا}: مفعول من أجله، أي: كراهية أن تقولوا.
يقول الحقّ جلَ جلاله: {يا أهل الكتاب}؛ اليهود والنصارى {قد جاءكم رسولنا} محمد صلى الله عليه وسلم {يُبين لكم} ما اختلفتم فيه، أو ما كنتم من أوامر الدين، أو مطلق البيان. جاءكم {على} حين {فترة من الرسل} وانقطاع من الوحي، أرسلناه كراهية {إن تقولوا} يوم القيامة: {ما جاءنا من بشير ولا نذير}، فتعتذروا بذلك، {فقد جاءكم بشير ونذير} فلا عذر لكم، {والله على كل شيء قدير} فيقدر على الإرسال من غير فترة، كما في أنبياء بني إسرائيل؛ فقد كان بين موسى وعيسى ألف نبي، وبينهما ألف وسبعمائة سنة، وعلى الإرسال على الفترة، كما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. كان بينهما ستمائة سنة، أو خمسمائة سنة وتسع وستون سنة. قاله البيضاوي:
والذي في الصحيح: أن الفترة ستمائة سنة، وفي الصحيح أيضًا عنه عليه الصلاة السلام: «أنا أولى النَّاس بعِيسَى في الأُوَلى والآخرة وليس بَينَنَا نبي» وهو يرد ما حكاه الزمخشري وغيره: أَن بينهما أربعة أنبياء: ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب، وهو خالد بن سِنان العبسي؛ لأن النكرة في سياق النفي تعم. قاله المحشي.
الإشارة: ظهور أهل التربية بعد زمان الفترة، وخمود أنوار الطريقة وأسرار الحقيقة، حجة على العباد، ونعمة كبيرة على أهلِ العشق والوداد، من انتكب عنهم لقي الله بقلب سقيم، وقامت بهم الحجة عليهم عند الملك الكريم، ومن اتبعهم وحطَ رأسه لهم فاز بالخير الجسيم، والنعيم المقيم؛ حيث لقي الله بقلب سليم، وقد ظهروا في زماننا هذا بعض اندراس أنوار الطريقة، وخمود أسرار الحقيقة، فجدد الله بهم الطريقة، وأحيا بهم أسرار الحقيقة، منهم شيخنا أبو المواهب صاحب العلوم اللدنية والأسرار الربانية، البحر الفياض، سيدي محمد بن أحمد البوزيدي الحسني، وشيخه القطب الواضح، والجبل الراسخ، شيخ المشايخ، مولاي العربي الدرقاوي الحسني، أطال الله بركاتهما للأنام، فقد تخرج على أيديهما الجم الغفير من الأولياء، وليس الخبر كالعيان. وبالله التوفيق.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {و} اذكر {إذ قال موسى لقومه}: يا بني إسرائيل {اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء} يسُوسُونكم، كلما مات نبي خلفه نبي، فقد شرفكم بهم دون غيركم، إذ لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، {وجعلكم ملوكًا} أي: جعل منكم ملوكًا، وقد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء، فكان كل نبي معه ملك ينفذ أحكامه، فكانت دار النبوة ودار المملكة معلومة، يخلف بعضهم بعضًا في النبوة والمُلك، استمر ذلك لهم، حتى قتلوا يحيى، وهموا بقتل عيسى، فنزع الله منهم الملك، وأنزل عليهم الذل والهوان.
وقيل: لمّا كانوا مملوكين في أيدي القبط، فأنقذهم الله وجعلهم مالكين لأنفسهم، سماهم ملوكًا.
{وآتاكم ما لم يُؤت أحدًا من العالمين} من فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، ونحوها، أو المراد عالمي زمانهم، وعن أبي سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَانَ بنو إسرَائيل إذا كَانَ لأحَدِهم خَادِمٌ وامرَأة يُكتَب مَلِكًا» وقال ابن عباس: (من كان له بيت وخادم وامراة فهو مَلِك)، وعن أبي الدرداء قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أصبَحَ مُعَافّى في بَدَنِه، آمنًا في سِربِه، عِندَه قُوتُ يَومِه، فكأنما حِيزَت له الدنيا بحذافيرها، يكفيكَ منها، يا ابنَ آدم، ما سَدَّ جوعَتَكَ، وَوَارَ عَورَتك، فإن كان بيتٌ يُوارِيك فذاك، وإن كانت دابة فبخ بخ، فلق الخبز، وماء الجر وما فَوق الإزار حِسَابٌ عليك».
وقال الضحاك: (كانت منازلهم واسعة، فيها مياه جارية، فمن كان مسكنه واسعًا وفيه ماء جارٍ، فهو مالك). وقال قتادة: كانوا أول من ملك الخدم، وأول من سخر لهم الخدم من بني آدم. اهـ.
الإشارة: كل من رزقه الله من يأخذ بيده ومن يستعين به على ذكر ربه، فليذكر نعمة الله عليه، فقد أسبغ الله عليه نعمه ظاهرة وباطنة. وكل من ملك نفسه وهواه، وأغناه الله عما سواه، فهو ملك من الملوك. وكل من خرجت فكرته عن دائرة الأكوان، واتصل بفضاء الشهود والعيان، فقد آتاه الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين. وقد كُنتُ ذات يوم جالسًا في الجامع الأعظم من مدينة تطوان، فانتبعت فإذا مصحف إلى جنبي، فقال لي الهاتف: انظر تجد مقامك، فأعرضت عنه، فأعاد عليَّ الهاتف ثلاث مرات، فرفعته، ونظرت، فإذا في أول الورقة: {وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين}، فحمدت الله تعالى وأثنيت عليه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8